المسيحيون المغاربة وشهر رمضان
Created on 7/14/2013 7:52:55 AM
شهر رمضان تتغير فيه الحياة في المغرب كليا، يتغير التوقيت والجو ووثيرة العمل وكل شيء، هذا بالنسبة للإنسان المغربي المسلم الذي يؤمن بواجب الصيام في هذا الشهر وبتأدية التراويح للبعض أو بالسهر مع العائلة أو الأصدقاء بالنسبة للآخر، لكن كيف يقضي المسيحيون المغاربة يومهم في شهر رمضان؟ وما هي معاناتهم اليومية خصوصا وأنهم لا يؤمنون بأن الصيام مفروض عليهم في هذا الشهر؟ كيف يتأقلمون معه؟ وهل يأكلون خفية من الناس؟ ماذا لو كانوا يعيشون مع والديهم ومع أسرهم المسلمة؟ ماذا عن أماكن عملهم؟ هل سيسمح لهم القانون بالأكل خصوصا وأنهم غير مسلمين؟ فالقانون يلزم المسلمين بعدم الإفطار العلني، لكن هل يلزم غير المسلمين من المسيحيين المغاربة؟
بالنسبة لي كان الحل سهلا خصوصا وأني صاحب مكان العمل، وأنا وزوجتي مسيحيان والأقارب يعرفون أننا مسيحيان ولذلك لا يقومون بزيارتنا في رمضان تفاديا للإحراج. ففي الصباح لا أغادر البيت قبل أن أتناول وجبة فطوري، ثم أذهب للعمل حاملا معي بعض الفواكه وسندويتش خفيف أتناوله وقت الظهيرة بعد أن أغلق باب مكتبي حتى أتحاشى المواجهة مع أي زبون أو أي شخص مسلم، الذين يعملون معي رغم كونهم مسلمين يقدرون خصوصيتي ويحترمونها مع بعض الغمز واللمز أحيانا من باب المزاح، كأن يقولوا لي إنك تبتسم ولا تتشاجر "لأنك ضارب رمضان" أو من قبيل " نتا للي عبرتي!! شاحطو مع راسك وممسوقش!"
كانت أختي "المسلمة" تعيش معي في نفس البيت وتصوم رمضان، وكانت زوجتي تعد لها وجبة "الإفطار الرمضاني" قبل موعد الآذان احتراما لها وحتى لا تحس بأننا نجبرها أن تصير هي الأخرى مسيحية مثلنا، ولذلك نتناول الإفطار معها جميعا، بالنسبة لنا هي وجبة عشاء مبكرة وبالنسبة لها هي وجبة إفطار، وهكذا نرضي الجميع ونعيش بسلام.
أحيانا في رمضان كنت أزور خالتي أو خالي، (خالي الحاج) وخالتي (الحاجة)، رغم كونهم مسلمين كانوا يستقبلوني أنا وزوجتي بكل فرح وسرور، وكانوا يعلمون أني لست بصائم، ومع ذلك يعزموننا لتناول وجبة الإفطار معهم، وأنا لا أمانع وأجلس معهم مستمتعا بالجو العائلي حول المائدة أكثر مما يهمني الطقس الديني لها، وكان بعض أولاد خالتي أو أولاد خالي يهمسون في أذني مازحين: "ياك ما صايمش علاش جاي تزاحم معانا في الفطور؟" فأجيب أنا ضاحكا:" ألا تقولون بأن رمضان كريم؟ إنه كريم معي أنا جدا، فهو يعطيني فرصة للأكل كل حين ليلا ونهارا!" تمضي المزحة بسلام دون أي تعقيبات تذكر. أما الكبار من العائلة فكانوا يتحاشون الكلام عن الموضوع حتى لا يتم تقليب أي مواجع من الماضي تتعلق بتغيير الدين من الإسلام للمسيحية. تعودنا معا على الأمر وتأقلمنا معه ووضعنا الخطوط الحمراء والخضراء بيننا بفعل الزمن.
بالنسبة لأصدقائي الآخرين من المسيحيين كنت أعرف أن الكثير منهم يمر بمآسي طيلة شهر رمضان، فأغلبهم يضطر لأكل قطعة من الخبز أو يشرب جرعة ماء بسيطة في الحمام متظاهرا أنه دخل لقضاء الحاجة، خصوصا الذين يعيشون مع أهلهم المسلمين، أو الذين لا يعلم أهلهم بمسألة اعتناقهم للمسيحية أو الذين يعملون في محيط كله مسلم. وحدهم الذين يعملون مع أجانب أو يعملون مع مسيحيين أو لديهم مكاتب مستقلة يمكنهم أن يأكلوا بحرية نوعا ما داخل مكاتبهم. والبعض منهم يظل جائعا لا يستطيع عمل شيء، مجبرا على أن يصوم شهرا كاملا لا يؤمن به، فقط لأن القانون المغربي سيعاقبه إذا تجرأ وأكل أمام أي من زملائه أو أصدقائه أو في أحد المطاعم المفتوحة. سنة 1998 تم تشخيصي بالقرحة في المعدة ونصحني الطبيب أيامها بالأكل ست مرات في اليوم حتى أتجنب مشكلة الإفرازات الحمضية وأثرها على القرحة وخوفا من نزيف داخلي حاد، ذهبت مرات كثيرة إلى ماكدونالدز للأكل خلال شهر رمضان وكنت أحمل معي تشخيص الطبيب في جيبي حتى إذا حصلت أي مشكلة مع أي شخص تكون لدي حجة أحمي بها نفسي رغم أني غير مقتنع أصلا بالقانون الذي يمنعني حقا من الحقوق الأساسية للإنسان وهي حق الأكل في أي وقت أشاء في أي مكان أشاء. فالأصل هو الأكل، والصيام هو الاستثناء، ولا يمكن أن يفرض على الإنسان الاستثناء، مع العلم أن المسيحيين يصومون أيضا، لكنه صوم اختياري وليس إجباريا، بل ويصومون أكثر من المسلمين فالأورثوذوكس مثلا يصومون 7 شهور في السنة، ولا أحد يدري بصيامهم لأنهم مأمورون بإخفائه وعدم إظهاره للناس لأنه مسألة بين المخلوق والخالق، ومعظم المسلمين لا يعرفون متى يصوم الكاثوليك في العالم مع العلم أنهم أيضا يصومون لمدة 47 يوما قبل عيد القيامة (القيامة في شهر 4) و14 يوما قبل عيد الميلاد(شهر 12) بالإضافة لأيام أخرى والأربعاء والجمعة طيلة السنة. لن تجد أي دولة بما فيها الدول التي فيها أغلبية مسيحية تفرض على الناس الصوم وتعاقب من أكل علنا أمام الصائمين، لا يحصل هذا إلا في البلدان الإسلامية! فهل يقبل أي مسلم يعيش في بلدان غير إسلامية أن يفرض عليه الجوع فرضا؟ والغريب يقول المسؤولون عندنا في المغرب أن الإنسان حر في أن يأكل لكن عليه أن يأكل في بيته، هل هذا أمر معقول خصوصا في رمضان حين يكون الوقت أصلا لا يسمح للشخص بأن يغادر عمله ويعود لبيته؟ بل الوقت مفصل على مقاس الأغلبية الصائمة، هل يستطيع الطالب المسيحي أيضا أن يذهب للبيت ليأكل ثم يعود؟ تضطر أغلبية العائلات المسيحية التي يدرس أبناؤها البالغين في المدارس إلى إعداد وجبة الفطور فقط في الصباح وعليهم الانتظار لغاية المساء وهو موعد الإفطار على أية حال. وأغلب العائلات المسيحية لا تطبخ وجبة الغذاء خصوصا أولئك الذين لا يعرف جيرانهم أنهم مسيحيون حتى لا يشتموا رائحة الأكل لأننا نحن كمغاربة فضوليون جدا ونتدخل في خصوصيات الآخرين فيخافون أن يتساءل الجيران عن سبب طبخهم للغذاء كل يوم، اللهم إذا كان لديهم أطفال فإنهم سيشكلون لهم الملاذ والحجة التي تبرر الطبخ اليومي في وقت الظهيرة أو ما قبلها. كنت أنا وزوجتي نفضل السندويتشات الجاهزة أيام السبت والأحد حتى نتجنب أي مشاكل مع الجيران. وينبغي أن تكون أنواع الأكل من الأنواع التي لا تترك رائحة نفاذة في الفم لأن الكل سيشتم في الخارج هذه الرائحة وتدخل في سين وجيم مع كل شخص تلتقيه محاولا أن تشرح له موقفك من الأمر، خصوصا وأن رمضان يكثر فيه من يتعصب للدين ويتشدد حتى لو كان من الذين يسكرون بقية الشهور، أو كما قال أحد أصدقائي أن الشهور عنده ثلاثة: شعبان ورمضان ومرجان (شعبان يتوقف عن الشرب، رمضان يتعبد لله، ومرجان كناية على المكان الذي يذهب إليه مباشرة بعد انتهاء رمضان ليأخذ زاده من المشروبات، وهذا الشهر يستمر السنة كلها لغاية شعبان الموالي). وأحيانا يستخدم الأصدقاء المسيحيون رموزا للأكل بينهم حتى لا ينتبه السامعون فقد يسمون الأكل مراجعة، أو كتبا، أو شيئا من هذا القبيل: يسأل أحدهم هل لديك أي كتب الآن في البيت؟ هل يمكن أن نذهب للمراجعة الآن؟ وهكذا. وبعض المسيحيين الجدد من الذين لم تمر على اعتناقهم للمسيحية إلا شهور قليلة تجدهم يحافظون على صيام رمضان حتى لو كان لديهم الحرية في الأكل وكانوا في أماكن خاصة مغلقة مع مسيحيين آخرين، وقد عرفت أن هذا راجع إلى كون أغلب المغاربة لديهم تخوف داخلي من إفطار رمضان، فكل الذين التقيتهم وسألتهم عن هذا الأمر قالوا بأنهم يعلمون أن رمضان ليس مفروضا عليهم لكن لم يتغلبوا على حاجز الخوف بعد، فقد سمعوا من العائلة والأصدقاء منذ الصغر أن "اللي يفطر رمضان يخرج فيه" وهي طريقة للترهيب تترسب في العقل الباطن للإنسان وتصير في علم النفس عائقا يحتاج إلى التدريب والممارسة ليتغلب عليه الشخص، على كل حال تجد أغلب المسيحيين بعد سنة أو سنتين قد تغلب على هذا الحاجز وتخطاه ولم يعد يشكل أي عقدة لديه.
أعرف مغربيا مسيحيا يدعى (م.ج) تم القبض عليه في السبعينات أيام الحسن الثاني، وحار القضاة في الحكم عليه فالقانون المغربي لا يجرم من يعتنق المسيحية، فما كان من القاضي إلا أن سأله عن صيام رمضان هل صام رمضان أم لا؟ فأجاب الشخص بأنه لم يصم رمضان، فحكم عليه القاضي بالسجن ستة أشهر حبسا نافذا اعتمادا على الفصل 222 من القانون الجنائي المغربي، وهي العقوبة القصوى في هذا الشأن. حيث يقول الفصل: " كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي، و تجاهر بالإفطار في نهار رمضان، في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر و غرامة من اثني عشر إلى مائة و عشرين درهما". وقد عانت عائلته الأمرين بسبب هذا الحكم الجائر وتشرد أبناؤه لمدة ستة أشهر، لأن الحكم لم يحرمهم من والدهم فقط بل أوقفه عن الشغل وكان سببا في حرمانهم من المورد المالي الوحيد الذي كان لديهم. وهذا الشخص لا زال مسيحيا وحيا يرزق في المغرب يمكن أن يشهد على ذلك. فهل يعقل أن يحاكم شخص بتهمة الإفطار العلني وهو لا يؤمن بأن الصيام مفروض عليه في هذا الشهر؟ أليس هذا ضد حقوق الإنسان؟ هل يرضى أي مغربي في أي بقعة في العالم أن يحاكم لأنه لم يبق جائعا اليوم كله مراعاة لمشاعر سكان دولة معينة ولتقاليدهم؟ علما أن الأمر لا يتوقف على يوم واحد بل شهر كله. العالم اليوم قرية صغيرة وعلينا أن نلحق بركب التقدم ومن أساسيات التقدم الحريات الفردية: ومن أهم الحريات الفردية هي حرية الاعتقاد. وحرية الاعتقاد تتضمن: من شاء فليفطر ومن شاء فليصم (سرا أو علانية) وليس كما قال وزير العدل.
رشيد المغربي
Please Login or register to be able to rate or comment